مسرحيات عربية

المخرج جاك لاسال مسافراً في مشهدية الكلمات

مقالات بالمسرح
رغم ان المقال كتب عام 2014 الا اني كباحث عن الجماليات اراه مازال حيا ويحتاجه الكثيرون للاطلاع على الاسلوب الاخراجي عند جاك لاسال لذلك نشر بالمجلة .
* ” لسبب أو لغير سبب” لساروت على مسرح “لا كولين” الباريسي

المخرج جاك لاسال مسافراً في مشهدية الكلمات
كتابة : ابدكتور محمد سيف/باريس

تعتمد كتابات ناتالي ساروت المسرحية، في اغلب الأحيان، على الأفعال الكلامية الموجودة في الخطاب المسرحي الذي من شأنه أن يصنع الحدث المسرحي وليس العكس. فبالإضافة إلى المعاني والدلالات التي يتضمنها الحوار المسرحي، توجد هناك أفعال كلامية تكاد أن تكون غير مرئية في قلب التركيبات اللغوية المتداولة.
من هذه التركيبات تتشكل أحداث مسرحية “لسبب أو لغير سبب” للمخرج الفرنسي جاك لاسال على مسرح “لا كولين” الباريسي، مستنطقةً موضوع التفاهم بين أكثر الأصدقاء محبة وتقاربا. ومثلما للخطاب مشهديته، على قول ميشال اسكاروف في كتابه “مشهدية الخطاب”، فإن لمسرحية ساروت هذه خطابيتها المشهدية التي سنحاول هنا أن نلقي الضوء عليها.
يتشكل الكلام، في هذه المسرحية، أو بالأحرى يصنع أمام المتفرج لحظة التقديم كما لو أنه في حالة تحضير مستمر أو أنه لم يكتب من قبل ولن يخضع للشطب والتصحيح، ويكشف هذا الحوار- الكلام الدرامي عن شخصيات المسرحية وصراعاتها الاجتماعية التي تتأسس من خلال الفعل المنطوق الذي يولد بنوع من الرقة أو القسر وفقا للحالة المسرحية والظرف. ما إن يولد الحوار حتى يتلاشى مبتعدا، هائجا، متدفقا، منتشرا، خالقا لنفسه رفاق درب ومخلوقات على شاكلته، مرةً يعاملهم معاملة عنيفة، وثانيةً يداعبهم، وثالثةً يعضهم، ورابعةً يتركهم في حال سبيلهم ويذهب في طريقه. يصنع الحدث لكي يتكاثر من خلاله ثم يستغرق فيه. الكلام المنطوق أو الفعل المسموع في مثل هذه المسرحيات يجب أن نوليه اهتماما بالغا، يجب أن نسمعه جيدا، لأنه لا يمثل في حقيقة الأمر، إلا أعماق أعماقنا. مصادره هي نحن، لذلك نراه كما لو أنه يضحك، بل يضحك حد البكاء، حد انقطاع النفس، حد الألم. يتعذب من أجل أن يأتي ذات يوم يقدر فيه أن يبوح بكل ما يضيق به الصدر من أسرار، وبهرجة وصخب. يدوّي بلا انتهاء مثل فرقعة أفكارنا الداخلية التي تدوّي لأدنى اهتزاز داخلي أو خارجي، ولأدنى اهتزاز فوقي أو سفلي، وسوف تستدير هذه الأفكار وتطير وتنفتح على أعماقها السحيقة مثل نباتات تفاجئ الضوء خلسة.
تتحدث المسرحية عن صديق يأتي لزيارة صديقه بعد انقطاع طويل، وسنسمّي الشخصيات بالواحد والثاني لأن النص لم يمنحهما أسماء. الواحد يأتي لزيارة الثاني من أجل أن يسأله عن السبب الذي جعله يبتعد ويتحاشى لقاءه. يرجع الصديقان إلى الوراء قليلا لتذكر ما حدث من خلال أصغر التفاصيل التي مرت بهما وباعدت بينهما. لا يمثّل بطلا المسرحية طبقة اجتماعية معينة وليس هما بزوج وزوجة، إنما هما فردان أعزلان قررا أن يتقابلا وأن يعطيا نفسيهما فرصة أخيرة للحديث. فالمسرحية تتأرجح بين لا ونعم، مثلما تتأرجح بين السبب واللا سبب. المسرحية كمتن أدبي بمثابة بحث عن بقايا صداقة طويلة، محصورة بين صديقين، يبدو من الصعب التدخل بينهما، لا سيما أن اشكاليتهما معقدة، والسبب فيها يعود إلى اللفظ، اللغة، التعبير وأبعاده النفسية. هي إشكالية تكاد أن تكون غير مرئية للغير، لأنها تقطن في الوجه غير المرئي للحوار بين الصديقين المتخاصمين، واعتقد أن تدخل شخص خارجي في مثل هذه الحالة يصبح مضحكا ومثيرا للسخرية، لأنه لن يفهم من الخلاف شيئا.
وهذا ما حدث على وجه التحديد في هذه المسرحية. فعندما يتدخل الجيران لحل المشكلة بين الصديقين، لا يجدون ما يمكن قوله لأنهم لم يفهموا لا المشكلة ولا تصرفات الصديقين اللذين قال احدهما للآخر ذات يوم معلقا على موضوع شخصي: “هذا جيد”، فيرد عليه الآخر: “كلا، لم تقل ما قلت بهذه الطريقة، لأن بين “هذا” و”هذا جيد”، كانت هناك مدة زمنية، ثم إن نبرتك في النطق كانت خاصة، فأنت لم تقل “جيد” دفعة واحدة أو كما يجب، إنما قلت هذا “جي ي ي يد”، ثم توقفت كثيرا قبل أن تنطق بـ”هذا”.
هذه المعادلة اللغوية أو بالأحرى اللفظية لا يمكن أن يحلها شخص غريب، لهذا السبب تبدو المسرحية كما لو أنها عالم مغلق خاص بأصحابه، تضيق حلقة اتساعه كلما حاول غريب التقرب منه. إنه يشبه حلبة مصارعة لا يمكن الخروج منها ما لم تنتصر على الآخر، الصديق الخصم. ولكن لو تساءلنا بنوع من الحذر، من هما هاتان الشخصيتان؟ الواحد والثاني، ومن تكونان؟ الجواب: هما قبل بدء المسرحية، وقبل التلفظ في الجملة التي كسرت ظهر البعير، صديقين حميمان، لم يفترقا منذ الصغر.
وقفة مع المخرج والإخراج
يقول جاك لاسال: “إن ناتالي ساروت بالنسبة لي بمثابة لقاء أو بالأحرى لقاءات عدة جوهرية تشكلت منها ومن خلالها حياتي الفنية”. ومن الملاحظ على طريقة لاسال الإخراجية في هذا العمل، على الأقل، انه يبحث عن الكيفية التي تبحث بها ساروت في مؤلفاتها. فهو يولي اهتماما خاصا في هذا العرض بلحظات النزاع، وفي إمكاننا ملاحظة ذلك ببساطة، من الطريقة التي قاد بها الممثل. لقد كان يتشبث بهذه اللحظات كما لو أن ليس هناك شيء آخر غيرها يهمّه. فاللحظات الصراعية لجاك لاسال كادت أن تمثل كل الإخراج، الى درجة صارت قلب الحدث وسر ديمومته المسرحية. أصبح الصراع هو الوسيط والمحفز الذي يكشف عن تشقق واجهة العلاقة الإنسانية المصقولة صقلا تاما في نظر الآخرين. وهذا يمكن أن يكون تراجيديا لولا الدعابة التي كانت تظهر وتغيب بين حين وآخر على سطح الأحداث، ولكن هناك سؤال محير يمكن طرحه بكل هدوء وتأمل: ما هو الدور الذي تلعبه الدعابة في مؤلفات ساروت المسرحية؟ والجواب أنها تؤلف سلطة اعتراضية، تخريبية، فالعرض “تراجيكوميك”، يجمع التراجيديا بالكوميديا بكيفية شاعرية حياتية لا تجعلنا نشعر باختلاف هذين اللونين من المسرحة. الدعابة في عرض لاسال، تمارس دورها الإزعاجي والاضطرابي على التراجيديا في كل مرة تحاول هذه الأخيرة أن تشكل نفسها. العوالم التي رسمتها ساروت لا تجرؤ أن تأخذ بالتراجيديا مثلما هي، كما لا تجرؤ أن تسقط في أحضان الكوميديا المحضة، لأن هذه العوالم غير مستمرة، ومترددة، وملتبسة، ومرتجفة، فهي غير قادرة على إكمال طريقها. إنها نسبية مثل ظهور الحقيقة واختفائها تماما.
تقول ساروت في نص قرأته في مؤتمر لـ”الرواية الجديدة”: “أذهب إلى موضوع آخر، أذهب إلى أين؟ اذهب إلى تلك البقاع والمناطق النائية التي لا يستطيع الوصول إليها أحد. أذهب إلى تلك البقاع الصامتة، والمظلمة، والمبهمة، هناك حيث الكلمات التي لم تستعمل بعد، أذهب نحو تلك الكلمات التي لم تمارس عليها اللغة بعد أفعال التجفيف والتحجر، أذهب الى الذي لا يزال يتحرك نحو ما هو افتراضي، نحو الإحساس الهائج مثل موج البحر، ونحو ما هو جمالي. نحو هذا اللامسمى- تقصد الإحساس النقي- الذي يعترض الكلمات بقوة والذي يستغيث بها مع ذلك لأنه لا يمكن أن يوجد من غيرها”.
يبحث لاسال عن هذه الطرائق والسبل العنيدة التي تتجه نحو تلك المواضع والأمكنة المبهمة الغامضة، يبحث عن كل ما هو غير مؤكد وصامت، يبحث هناك حيثما توجد الكلمات التي لم تستعمل بعد والطرق التي لم تسلك بعد في أساليب العرض والتقديم وقيادة الممثل.
سفر في عالم ساروت
عرض المخرج جاك لاسال، بحث في عوالم ساروت المسرحية، خالٍ من المزاعم، حاول من خلاله أن يلمّ بالنص المقدم وما بعد النص وما قبله بشكل عادل، من غير خداع أو خيانة. درس النص المكتوب وقاربه مع التشكيل المسرحي للحكاية التي عنى بها الإخراج من خلال تحديد الصيغة المسرحية لسرد الأحداث. هذا الجهد البيّن والمشروح بنوع من الإخلاص، لا ينم إلا عن عبقرية إخراجية فريدة، تعرف كيف توازن بين ما هو مسرحي حياتي وما هو مسرحي متخيل يقوم بصناعته المتفرج لحظة التقديم، ولحظة النزاع المسرحي القائم، الذي بموجبه يتم البعد ألتأثيري للعرض. شيّد المخرج عملا مسرحيا انطلاقا من العلاقة الوطيدة بين الشكل والمضمون، انطلاقا من العالم الذهني والتشكيل الأدبي الملموس، انطلاقا من رؤيته للعالم والشكل الفني، معتنياً بالشكل المسرحي الذي يلجأ إلى بعض تقنيات التقريب والتعليق من أجل عقد مقاربة اجتماعية يقصد من ورائها المساهمة في تغييره.
محمد سيف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى